فصل: تفسير الآية رقم (3)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


الجزء الرابع

سورة التوبة

قال مقاتل‏:‏ هذه السورة مدنية إلا آيتين من آخر السورة‏.‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ قلت لابن عباس‏:‏ سورة التوبة‏؟‏ قال‏:‏ هي الفاضحة ما زالت تنزل‏:‏ ‏"‏ومنهم‏.‏‏.‏‏"‏، ‏"‏ومنهم‏.‏‏.‏‏"‏ حتى ظنوا أنها لم تُبْق أحدا منهم إلا ذكر فيها، قال‏:‏ قلت سورة الأنفال‏؟‏ قال‏:‏ تلك سورة بدر، قال‏:‏ قلت‏:‏ سورة الحشر‏؟‏ قال‏:‏ قل سورة بني النضير‏.‏

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي، أنا أبو إسحاق أحمد بن محمد إبراهيم الثعلبي، أنبأنا أبو الحسين علي بن محمد بن الحسين الجرجاني، أنبأنا أبو أحمد عبد الله بن عديّ الحافظ، أنبأنا أحمد بن علي بن المثنى، حدثنا عبيد الله القواريري، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا عوف بن أبي جميلة الأعرابي، حدثني يزيد الفارسي، حدثني ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ قلت لعثمان بن عفان رضي الله عنه‏:‏ ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة، وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما ‏"‏بسم الله الرحمن الرحيم‏"‏ ووضعتموها في السبع الطوال‏؟‏

فقال عثمان‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما يأتي عليه الزمان، وهو ينزل عليه السُّوَر ذوات العدد، فإذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده، فيقول‏:‏ ضعوا هذه الآية في السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال مما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما نزل، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وقُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبيِّنْ لنا أنها منها، فمن ثم قرنتُ بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتها في السبع الطوال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏1‏)‏ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ أي هذه براءة من الله‏.‏ وهي مصدر كالنَّشاءة والدَّناءة‏.‏

قال المفسرون‏:‏ لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، كان المنافقون يرجفون الأراجيف وجعل المشركون ينقضون عهودا كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر الله عز وجل بنقض عهودهم، وذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏وإما تخافن من قوم خيانة‏"‏ الآية ‏(‏الأنفال- 58‏)‏‏.‏

قال الزجاج‏:‏ براءة أي‏:‏ قد برئ الله تعالى ورسوله من إعطائهم العهود والوفاء لهم بها إذا نكثوا‏.‏

‏{‏إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ الخطاب مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي عاهدهم وعاقدهم، لأنه عاهدهم وأصحابه راضون بذلك، فكأنهم عاقدوا وعاهدوا‏.‏

‏{‏فَسِيحُوا فِي الأرْضِ‏}‏ رجع من الخبر إلى الخطاب، أي‏:‏ قل لهم‏:‏ سيحوا، أي‏:‏ سيروا في الأرض، مقبلين ومدبرين، آمنين غير خائفين أحدا من المسلمين‏.‏ ‏{‏أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ غير فائتين ولا سابقين، ‏{‏وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ مذلُّهم بالقتل في الدنيا والعذاب في الآخرة‏.‏

واختلف العلماء في هذا التأجيل وفي هؤلاء الذين برئ الله ورسوله إليهم من العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

فقال جماعة‏:‏ هذا تأجيل من الله تعالى للمشركين، فمن كانت مدة عهده أقل من أربعة

أشهر‏:‏ رفعه إلى أربعة أشهر، ومن كانت مدة عهده أكثر من أربعة أشهر‏:‏ حطَّه إلى أربعة أشهر، ومن كانت مدة عهده بغير أجل محدود‏:‏ حدَّه بأربعة أشهر، ثم هو حرب بعد ذلك لله ورسوله، فَيُقْتل حيث أدرك ويؤسر إلا أن يتوب‏.‏

وابتداء هذا الأجل‏:‏ يوم الحج الأكبر، وانقضاؤه إلى عشر من شهر ربيع الآخر‏.‏

فأما من لم يكن له عهد فإنما أجله انسلاخ الأشهر الحُرُم، وذلك خمسون يوما‏.‏ وقال الزهري‏:‏ الأشهر الأربعة شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم لأن هذه الآية نزلت في شوال، والأول هو الأصوب، وعليه الأكثرون‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان له عهد دون أربعة أشهر، فأتم له أربعة أشهر، فأما من كان له عهد أكثر من أربعة أشهر فهذا أمر بإتمام عهده بقوله تعالى‏:‏ ‏"‏فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم‏"‏‏.‏ قال الحسن‏:‏ أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بقتال من قاتله من المشركين، فقال‏:‏ ‏"‏قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم‏"‏ فكان لا يقاتل إلا مَنْ قاتله، ثم أمره بقتال المشركين والبراءة منهم، وأجَّلهم أربعة أشهر، فلم يكن لأحد منهم أجل أكثر من أربعة أشهر، لا من كان له عهد قبل البراءة ولا من لم يكن له عهد، فكان الأجل لجميعهم أربعة أشهر، وأحلَّ دماء جميعهم من أهل العهد وغيرهم بعد انقضاء الأجل‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت هذه قبل تبوك‏.‏

قال محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما‏:‏ نزلت في أهل مكة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد قريشا عام الحديبية على‏:‏ أن يضعوا الحرب عشر سنين يَأْمَنُ فيها الناس، ودخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل بنو بكر في عهد قريش، ثم عَدَتْ بنو بكر على خزاعة فنالت منها، وأعانتهم قريش بالسلاح، فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا عهدهم، خرج عمرو بن سالم الخزاعي، حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏

لا هُمَّ إني ناشد محمدا *** حلف أبينا وأبيه الأتْلدا

فانصر هداك الله نصرا أبدا *** وادعُ عبادَ الله يأتوا مددا

أبيض مثل الشمس يسمو صعدا *** إن سِيْم خَسْفا وجهُه تربَّدا

هم بَيَّتونا بالهجير هُجَّدا *** وقتلونا رُكَّعا وسُجَّدا

كنت لنا أبا وكنا ولدا *** ثَمَّتَ أسلمنا ولم نَنزعْ يدا

فيهم رسول الله قد تجرَّدا *** في فَيْلَقٍ كالبحر يجري مُزْبدا

إن قريشا أخلفوك الموعدا *** ونقضوا ميثاقك المؤكَّدا

وزعموا أن لست تنجي أحدا *** وهم أذلُّ وأقلُّ عددا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا نصرتُ إن لم أنصركم‏"‏، وتجهز إلى مكة سنة ثمان من الهجرة‏.‏

فلما كان سنة تسع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحج، ثم قال‏:‏ إنه يحضر المشركون فيطوفون عراة، فبعث أبا بكر تلك السنة أميرا على الموسم ليقيم للناس الحج، وبعث معه بأربعين آية من صدر براءة ليقرأها على أهل الموسم، ثم بعث بعده عليا، كرَّم الله وجهه، على ناقته العضباء ليقرأ على الناس صدر براءة، وأمره أن يؤذِّن بمكة ومنى وعرفة‏:‏ أن قد بَرِئَتْ ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم من كل مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان‏.‏

فرجع أبو بكر فقال‏:‏ يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنزل في شأني شيء‏؟‏ قال‏:‏ لا ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلِّغ هذا إلا رجل من أهلي، أما ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار وأنك صاحبي على الحوض‏؟‏ قال‏:‏ بلى يا رسول الله‏.‏

فسار أبو بكر رضي الله عنه أميرا على الحج، وعلي رضي الله عنه ليؤذِّن ببراءة، فلما كان قبل يوم التروية بيوم خطب أبو بكر الناس وحَدَّثهم عن مناسكهم، وأقام للناس الحج، والعرب في تلك السنة على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية من الحج، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه، فأذَّن في الناس بالذي أمر به، وقرأ عليهم سورة براءة‏.‏

وقال زيد بن يُثَيْع سألنا عليًا بأي شيء بعثت في تلك الحجة‏؟‏ قال‏:‏ بعثت بأربع‏:‏ لا يطوف بالبيت عريان، ومَنْ كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته، ومَنْ لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يجتمع المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا‏.‏

ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر حجة الوداع‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ كيف بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه ثم عزله وبعث عليًا رضي الله عنه‏؟‏‏.‏

قلنا‏:‏ ذكر العلماء أن رسول الله لم يعزل أبا بكر رضي الله عنه، وكان هو الأمير، وإنما بعث عليا رضي الله عنه لينادي بهذه الآيات، وكان السبب فيه‏:‏ أن العرب تعارفوا فيما بينهم في عقد العهود ونقضها، أن لا يتولى ذلك إلا سيدهم، أو رجل من رَهْطِه، فبعث عليًا رضي الله عنه إزاحة للعلة، لئلا يقولوا‏:‏ هذا خلاف ما نعرفه فينافي نقضَ العهد‏.‏

والدليل على أن أبا بكر رضي الله عنه كان هو الأمير‏:‏ ما أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا إسحاق، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال‏:‏ بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في مؤذنين يوم النحر نؤذن بمنى‏:‏ ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان‏.‏ قال حميد بن عبد الرحمن‏:‏ ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فأمره أن يؤذِّن ببراءة‏.‏ قال أبو هريرة فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر‏:‏ ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَذَان‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏"‏براءة‏"‏ أي‏:‏ إعلام‏.‏ ومنه الأذان بالصلاة، يقال‏:‏ آذنته فأذن، أي‏:‏ أعلمته‏.‏ وأصله من الأذن، أي‏:‏ أوقعته في أذنه‏.‏

‏{‏مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ‏}‏ واختلفوا في يوم الحج الأكبر‏:‏ روى عكرمة عن ابن عباس‏:‏ أنه يوم عرفة، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن الزبير‏.‏ وهو قول عطاء وطاوس ومجاهد وسعيد بن المسيب‏.‏

وقال جماعة‏:‏ هو يوم النحر، روي عن يحيى بن الجزار قال‏:‏ خرج علي رضي الله عنه يوم النحر على بغلة بيضاء، يريد الجبانة، فجاءه رجل وأخذ بلجام دابته وسأله عن يوم الحج الأكبر‏؟‏ فقال‏:‏ يومك هذا، خل سبيلها‏.‏ ويروى ذلك عن عبد الله بن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة‏.‏ وهو قول الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير والسدي‏.‏

وروى ابن جريج عن مجاهد‏:‏ يوم الحج الأكبر حين الحج أيام منى كلها، وكان سفيان الثوري يقول‏:‏ يوم الحج الأكبر أيام منى كلها، مثل‏:‏ يوم صفين ويوم الجمل ويوم بُعاث، يراد به‏:‏ الحين والزمان، لأن هذه الحروب دامت أياما كثيرة‏.‏

وقال عبد الله بن الحارث بن نوفل‏:‏ يوم الحج الأكبر اليوم الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهو قول ابن سيرين، لأنه اجتمع فيه حج المسلمين وعيد اليهود والنصارى والمشركين، ولم يجتمع قبله ولا بعده‏.‏

واختلفوا في الحج الأكبر‏:‏ فقال مجاهد‏:‏ الحج الأكبر‏:‏ القِران، والحج الأصغر‏:‏ إفراد الحج‏.‏

وقال الزهري والشعبي وعطاء‏:‏ الحج الأكبر‏:‏ الحج، والحج الأصغر‏:‏ العمرة؛ قيل لها الأصغر لنقصان أعمالها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ‏}‏ أي‏:‏ ورسوله أيضا بريء من المشركين‏.‏ وقرأ يعقوب ‏"‏ورسوله‏"‏ بنصب اللام أي‏:‏ أن الله ورسوله برئ، ‏{‏فَإِنْ تُبْتُمْ‏}‏ رجعتم من كفركم وأخلصتم التوحيد، ‏{‏فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ‏}‏ أعرضتم عن الإيمان، ‏{‏فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏4‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ هذا استثناء من قوله‏:‏ ‏"‏براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين‏"‏ إلا مِنْ عَهْد الذين عاهدتم من المشركين، وهم بنو ضمرة، حي من كنانة، أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بإتمام عهدهم إلى مدتهم، وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشهر، وكان السبب فيه‏:‏ أنهم لم ينقضوا العهد، وهذا معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا‏}‏ من عهدهم الذي عاهدتموهم عليه، ‏{‏وَلَمْ يُظَاهِرُوا‏}‏ لم يعاونوا، ‏{‏عَلَيْكُمْ أَحَدًا‏}‏ من عدوكم‏.‏ وقرأ عطاء بن يسار‏:‏ ‏"‏لم ينقضوكم‏"‏ بالضاد المعجمة من نقض العهد، ‏{‏فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ‏}‏ فأوفوا لهم بعهدهم، ‏{‏إِلَى مُدَّتِهِمْ‏}‏ إلى أجلهم الذي عاهدتموهم عليه، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى ‏{‏فَإِذَا انْسَلَخَ‏}‏ انقضى ومضى ‏{‏الأشْهُرُ الْحُرُمُ‏}‏ قيل‏:‏ هي الأشهر الأربعة‏:‏ رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم‏.‏

وقال مجاهد وابن إسحاق‏:‏ هي شهور العهد، فمن كان له عهد فعهده أربعة أشهر، ومن لا عهد له‏:‏ فأجله إلى انقضاء المحرم خمسون يوما، وقيل لها ‏"‏حُرُم‏"‏ لأن الله تعالى حَّرم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتعرض لهم‏.‏

فإن قيل‏:‏ هذا القدر بعض الأشهر الحرم والله تعالى يقول‏:‏ ‏"‏فإذا انسلخ الأشهر الحرم‏"‏‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ لما كان هذا القدر متصلا بما مضى أطلق عليه اسم الجمع، ومعناه‏:‏ مضت المدة المضروبة التي يكون معها انسلاخ الأشهر الحرم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ‏}‏ في الحل والحرم، ‏{‏وَخُذُوهُمْ‏}‏ وأسروهم، ‏{‏وَاحْصُرُوهُم‏}‏ أي‏:‏ احبسوهم‏.‏

قال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ يريد إن تَحَصَّنوا فاحصروهم، أي‏:‏ امنعوهم من الخروج‏.‏

وقيل‏:‏ امنعوهم من دخول مكة والتصرف في بلاد الإسلام‏.‏

‏{‏وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ‏}‏ أي‏:‏ على كل طريق، والمرصد‏:‏ الموضع الذي يرقب فيه العدو، من رصدت الشيء أرصده‏:‏ إذا ترقبته، يريد‏:‏ كونوا لهم رصدا لتأخذوهم من أي وجه توجهوا‏.‏

وقيل‏:‏ اقعدوا لهم بطريق مكة، حتى لا يدخلوها‏.‏

‏{‏فَإِنْ تَابُوا‏}‏ من الشرك، ‏{‏وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ‏}‏ يقول‏:‏ دعوهم فليتصرفوا في أمصارهم ويدخلوا مكة، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ‏}‏ لمن تاب، ‏{‏رَحِيمٌ‏}‏ به‏.‏

وقال الحسين بن الفضل‏:‏ هذه الآية نسخت كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ ‏(‏6‏)‏ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ‏}‏ أي‏:‏ وإن استجارك أحد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم وقتلهم، أي‏:‏ استأمنك بعد انسلاخ الأشهر الحرم ليسمع كلام الله‏.‏ ‏{‏فَأَجِرْهُ‏}‏ فأعِذْه وآمنه، ‏{‏حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ‏}‏ فيما له وعليه من الثواب والعقاب، ‏{‏ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ‏}‏ أي‏:‏ إن لم يسلم أبلغه مأمنه، أي‏:‏ الموضع الذي يأمن فيه وهو دار قومه، فإن قاتلك بعد ذلك فقدرت عليه فاقتله، ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يعلمون دين الله تعالى وتوحيده فهم محتاجون إلى سماع كلام الله‏.‏ قال الحسن‏:‏ وهذه الآية محكمة إلى يوم القيامة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ‏}‏ هذا على وجه التعجب، ومعناه جحد، أي‏:‏ لا يكون لهم عهد عند الله، ولا عند رسوله، وهم يغدرون وينقضون العهد، ثم استثنى فقال جلَّ وعلا ‏{‏إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هم قريش‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هم أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ على العهد، ‏{‏فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ‏}‏ فلم يستقيموا، ونقضوا العهد، وأعانوا بني بكر على خزاعة، فضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح أربعة أشهر يختارون من أمرهم‏:‏ إما أن يُسلموا، وإما أن يلحقوا بأي بلاد شاؤوا، فأسلموا قبل الأربعة الأشهر‏.‏

قال السدي والكلبي وابن إسحاق‏:‏ هم من قبائل بكر‏:‏ بنو خزيمة وبنو مُدْلج وبنو ضُمْرة وبنو الدَّيل، وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية، ولم يكن نقض العهد إلا قريش وبنو الديل من بني بكر، فأمر بإتمام العهد لمن لم ينقض وهم بنو ضمرة‏.‏

وهذا القول أقرب إلى الصواب؛ لأن هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد وبعد فتح مكة، فكيف يقول لشيء قد مضى‏:‏ ‏"‏فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم‏"‏‏؟‏ وإنما هم الذين قال عز وجل‏:‏ ‏"‏إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا‏"‏ كما نقصتكم قريش، ولم يظاهروا عليكم أحدًا كما ظاهرت قريش بني بكر على خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ‏}‏ هذا مردود على الآية الأولى تقديره‏:‏ كيف يكون لهم عهد عند الله كيف وإن يظهروا عليكم‏!‏ ‏{‏لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً‏}‏ قال الأخفش‏:‏ كيف لا تقتلونهم وهم إن يظهروا عليكم أي‏:‏ يظفروا بكم، لا يرقبوا‏:‏ لا يحفظوا‏؟‏ وقال الضحاك‏:‏ لا ينتظروا‏.‏ وقال قطرب‏:‏ لا يراعوا فيكم إلا‏.‏ قال ابن عباس والضحاك‏:‏ قرابة‏.‏ وقال يمان‏:‏ رَحِما‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الإلُّ الحَلِفُ‏.‏ وقال السدي‏:‏ هو العهد‏.‏ وكذلك الذمة، إلا أنه كرر لاختلاف اللفظين‏.‏ وقال أبو مجلز ومجاهد‏:‏ الإل هو الله عز وجل‏.‏ وكان عبيد بن عمير يقرأ‏:‏ ‏"‏جبر إلّ‏"‏ بالتشديد، يعني‏:‏ ‏"‏عبد الله‏"‏‏.‏ وفي الخبر أن ناسًا قدموا على أبي بكر من قوم مسيلمة الكذاب، فاستقرأهم أبو بكر كتاب مسيلمة فقرؤوا، فقال أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ إن هذا الكلام لم يخرج من إل، أي‏:‏ من الله‏.‏

والدليل على هذا التأويل قراءة عكرمة ‏"‏لا يرقبون في مؤمن إيلا‏"‏ بالياء، يعني‏:‏ الله عز وجل‏.‏ مثل جبرائيل وميكائيل‏.‏ ولا ذمة أي‏:‏ عهدا‏.‏ ‏{‏يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ يعطونكم بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم، ‏{‏وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ‏}‏ الإيمان، ‏{‏وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ‏}‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ هذا في المشركين وكلهم فاسقون فكيف قال‏:‏ ‏"‏وأكثرهم فاسقون‏"‏‏؟‏

قيل‏:‏ أراد بالفسق‏:‏ نقض العهد، وكان في المشركين مَنْ وفى بعهده، وأكثرهم نقضوا، فلهذا قال‏:‏ ‏"‏وأكثرهم فاسقون‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏

‏{‏اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏9‏)‏ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ‏(‏10‏)‏ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا‏}‏ وذلك أنهم نقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكلة أطعمهم إياها أبو سفيان‏.‏ قال مجاهد‏:‏ أطعم أبو سفيان حلفاءه، ‏{‏فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ‏}‏ فمنعوا الناس من الدخول في دين الله‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ وذلك أن أهل الطائف أمدُّوهم بالأموال ليقووهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‏{‏إِنَّهُمْ سَاءَ‏}‏ بئس ‏{‏مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً‏}‏ يقول‏:‏ لا تبقوا عليهم أيها المؤمنون كما لا يُبْقون عليكم لو ظهروا، ‏{‏وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ‏}‏ بنقض العهد‏.‏

‏{‏فَإِنْ تَابُوا‏}‏ من الشرك، ‏{‏وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ‏}‏ أي‏:‏ فهم إخوانكم، ‏{‏فِي الدِّينِ‏}‏ لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، ‏{‏وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ‏}‏ ونبين الآيات ‏{‏لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة‏.‏ قال ابن مسعود‏:‏ أمرتهم بالصلاة والزكاة فمن لم يزك فلا صلاة له‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن الزهري، حدثنا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن أبا هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر رضي الله عنه بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي بكر‏:‏ كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله‏"‏‏؟‏ فقال أبو بكر‏:‏ والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدُّونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها‏.‏ قال عمر رضي الله عنه‏:‏ فوالله ما هو إلا أن قد شرح صدرَ أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عمرو بن عباس، حدثنا ابن المهدي، حدثنا منصور بن سعد عن ميمون بن سِِيَاهٍ عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من صلَّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا‏:‏ فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ‏}‏ نقضوا عهودهم، ‏{‏مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ‏}‏ عقدهم، يعني‏:‏ مشركي قريش، ‏{‏وَطَعَنُوا‏}‏ قدحوا ‏{‏فِي دِينِكُمْ‏}‏ عابوه‏.‏ فهذا دليل على أن الذمي إذا طعن في دين الإسلام ظاهرا لا يبقى له عهد، ‏{‏فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ‏}‏ قرأ أهل الكوفة والشام‏:‏ ‏"‏أئمة‏"‏ بهمزتين حيث كان، وقرأ الباقون بتليين الهمزة الثانية‏.‏ وأئمة الكفر‏:‏ رؤوس المشركين وقادتهم من أهل مكة‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ نزلت في أبي سفيان بن حرب، وأبي جهل بن هشام، وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وسائر رؤساء قريش يومئذ الذين نقضوا العهد، وهم الذين همُّوا بإخراج الرسول وقال مجاهد‏:‏ هم أهل فارس والروم‏.‏

وقال حذيفة بن اليمان‏:‏ ما قُوتِل أهل هذه الآية ولم يأت أهلها بعد ‏{‏إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ لا عهود لهم، جمع يمين‏.‏ قال قطرب‏:‏ لا وفاء لهم بالعهد‏.‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ ‏"‏لا إيمان لهم‏"‏ بكسر الألف، أي‏:‏ لا تصديق لهم ولا دين لهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو من الأمان، أي لا تؤمنوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم، ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ‏}‏ أي‏:‏ لكي ينتهوا عن الطعن في دينكم والمظاهرة عليكم‏.‏ وقيل‏:‏ عن الكفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 15‏]‏

‏{‏أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏13‏)‏ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ‏(‏14‏)‏ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏15‏)‏‏}‏‏.‏

ثم حض المسلمين على القتال، فقال جل ذكره‏:‏ ‏{‏أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ‏}‏ نقضوا عهودهم، وهم الذين نقضوا عهد الصلح بالحديبية وأعانوا بني بكر على قتال خزاعة‏.‏ ‏{‏وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ‏}‏ من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة، ‏{‏وَهُمْ بَدَءُوكُمْ‏}‏ بالقتال، ‏{‏أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ يعني‏:‏ يوم بدر، وذلك أنهم قالوا حين سَلِمَ العير‏:‏ لا ننصرف حتى نستأصل محمدا وأصحابه‏.‏

وقال جماعة من المفسرين‏:‏ أراد أنهم بدؤوا بقتال خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏أَتَخْشَوْنَهُمْ‏}‏ أتخافونهم فتتركون قتالهم‏؟‏ ‏{‏فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ‏}‏ في ترك قتالهم، ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ‏}‏ يقتلهم الله بأيديكم، ‏{‏وَيُخْزِهِمْ‏}‏ ويذلهم بالأسر والقهر، ‏{‏وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ‏}‏ ويبرئ داء قلوب قوم، ‏{‏مُؤْمِنِينَ‏}‏ مما كانوا ينالونه من الأذى منهم‏.‏ وقال مجاهد والسدي‏:‏ أراد صدور خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أعانت قريش بني بكر عليهم، حتى نكؤوا فيهم فشفى الله صدورهم من بني بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين‏.‏

‏{‏وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ‏}‏ كربها ووَجْدَها بمعونة قريش بكرا عليهم، ثم قال مستأنفًا‏:‏ ‏{‏وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ‏}‏ فيهديه إلى الإسلام كما فعل بأبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو، ‏{‏وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة‏:‏ ‏"‏ارفعوا السيف إلا خزاعة من بني بكر إلى العصر‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 17‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏16‏)‏ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ‏}‏ أظننتم ‏{‏أَنْ تُتْرَكُوا‏}‏ قيل‏:‏ هذا خطاب للمنافقين‏.‏ وقيل‏:‏ للمؤمنين الذين شق عليهم القتال‏.‏ فقال‏:‏ أم حسبتم أن تُتركوا فلا تؤمروا بالجهاد، ولا تمتحنوا، ليظهر الصادق من الكاذب، ‏{‏وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ‏}‏ ولم يرّ الله ‏{‏الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً‏}‏ بطانةً وأولياء يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ وليجة خيانة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ خديعة‏.‏ وقال عطاء‏:‏ أولياء‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة، والرجل يكون في القوم وليس منهم وليجة‏.‏ فوليجة الرجل‏:‏ مَنْ يختص بدخيلة أمره دون الناس، يقال‏:‏ هو وليجتي، وهم وليجتي للواحد والجمع‏.‏ ‏{‏وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ‏}‏ الآية‏.‏

قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ لما أسر العباس يوم بدر عيره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم، وأغلظ علي رضي الله عنه له القول‏.‏ فقال العباس‏:‏ ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا‏؟‏‏.‏

فقال له علي رضي الله عنه‏:‏ ألكم محاسن‏؟‏ فقال نعم‏:‏ إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج، فأنزل الله عز وجل ردا على العباس‏:‏ ‏"‏ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله‏"‏ أي‏:‏ ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله‏.‏

أوجب على المسلمين منعهم من ذلك؛ لأن المساجد إنما تعمر لعبادة الله وحده، فمن كان كافرا بالله فليس من شأنه أن يعمرها‏.‏ فذهب جماعة إلى أن المراد منه‏:‏ العمارة المعروفة من بناء المساجد ومُرَمَّمَته عند الخراب فيمنع منه الكافر حتى لو أوصى به لا تمتثل‏.‏ وحمل بعضهم العمارة ها هنا على دخول المسجد والقعود فيه‏.‏ قال الحسن‏:‏ ما كان للمشركين أن يتركوا فيكونوا أهل المسجد الحرام‏.‏

قرأ ابن كثير وأهل البصرة‏:‏ ‏"‏مسجد الله‏"‏ على التوحيد، وأراد به المسجد الحرام، لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وعمارة المسجد الحرام‏"‏، ولقوله تعالى ‏"‏فلا يقربوا المسجد الحرام‏"‏، وقرأ الآخرون‏:‏ ‏{‏مَسَاجِدَ اللَّهِ‏}‏ بالجمع والمراد منه أيضا المسجد الحرام‏.‏ قال الحسن‏:‏ إنما قال مساجد لأنه قبلة المساجد كلها‏.‏ قال الفراء‏:‏ ربما ذهبت العرب بالواحد إلى الجمع وبالجمع إلى الواحد، ألا ترى أن الرجل يركب البرذون فيقول‏:‏ أخذت في ركوب البراذين‏؟‏ ويقال‏:‏ فلان كثير الدرهم والدينار، يريد الدراهم والدنانير‏؟‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ‏}‏ أراد‏:‏ وهم شاهدون، فلما طرحت ‏"‏وهم‏"‏ نصبت، قال الحسن‏:‏ لم يقولوا نحن كفار، ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم بالكفر‏.‏

وقال الضحاك عن ابن عباس‏:‏ شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام، وذلك أن كفار قريش كانوا نصبوا أصنامهم خارج البيت الحرام عند القواعد، وكانوا يطوفون بالبيت عراة، كلما طافوا شوطا سجدوا لأصنامهم، ولم يزدادوا بذلك من الله تعالى إلا بُعْدا‏.‏

وقال السدي‏:‏ شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن النصراني يُسأل من أنت‏؟‏ فيقول‏:‏ أنا نصراني، واليهودي يقول‏:‏ أنا يهودي، ويقال للمشرك‏:‏ ما دينك‏؟‏ فيقول‏:‏ مشرك‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ‏}‏ لأنها لغير الله عز وجل، ‏{‏وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ‏}‏‏.‏

وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس‏:‏ معناه شاهدين على رسولهم بالكفر؛ لأنه ما من بطن إلا ولدته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ‏(‏18‏)‏‏}‏‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ‏}‏ ولم يَخَفْ في الدين غير الله، ولم يترك أمر الله لخشية غيره، ‏{‏فعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ‏}‏ و ‏"‏عسى‏"‏ من الله واجب، أي‏:‏ فأولئك هم المهتدون، والمهتدون هم المتمسكون بطاعة الله عز وجل التي تؤدي إلى الجنة‏.‏

أخبرنا أبو عمرو محمد بن عبد الرحمن النسوي، حدثنا محمد بن الحسين الحيري، حدثنا محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن الفرج الحجازي، حدثنا بقية، حدثنا أبو الحجاج، المهدي، عن عمرو بن الحارث، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان‏"‏ فإن الله قال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ‏}‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، أنبأنا محمد بن إسماعيل، حدَّثنا علي بن عبد الله، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن مطرف، عن يزيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من غدا إلى المسجد أو راح أعدَّ الله له نزلَه من الجنة كلما غدا أو راح‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا أبو عاصم، عن عبد الحميد بن جعفر، حدثني أبي عن محمود بن لبيد، أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أراد بناء المسجد فكره الناسُ ذلك، وأحبوا أن يَدَعَه، فقال عثمان‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏مَنْ بنى لله مسجدا بنى الله له كهيئته في الجنة‏"‏‏.‏

وأخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أنا أبو طاهر الزيادي، أخبرنا محمد بن الحسين القطان، حدثنا علي بن الحسين الدارابَجِرْدِيّ، حدثنا أبو عاصم بهذا الإسناد، وقال‏:‏ ‏"‏بنى الله له بيتا في الجنة‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ‏}‏ الآية‏.‏

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي، حدثنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، حدَّثنا عبد الله بن حامد بن محمد الوزان، حدثنا أحمد بن محمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله المعافري، حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي، حدثنا معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام، عن أبي سلام، حدثنا النعمان بن بشير قال‏:‏ كنتُ عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل‏:‏ ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أسقي الحاج‏.‏ وقال الآخر‏:‏ ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أعمر المسجد الحرام‏.‏ وقال الآخر‏:‏ الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتما، فزجرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال‏:‏ لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليتُ دخلت، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه، ففعل فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏"‏أجعلتم سقاية الحاجِّ وعمارة المسجد الحرام‏"‏، إلى قوله‏:‏ ‏"‏والله لا يهدي القوم الظالمين‏"‏‏.‏

وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ قال العباس حين أُسِر يوم بدر‏:‏ لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأخبر أن عمارتهم المسجد الحرام وقيامهم على السقاية لا ينفعهم مع الشرك بالله، والإيمان بالله، والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم خيرٌ مما هم عليه‏.‏

وقال الحسن، والشعبي، ومحمد بن كعب القرظي، نزلت في علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وطلحة بن شيبة، افتخروا فقال طلحة‏:‏ أنا صاحب البيت بيدي مفتاحه، وقال العباس‏:‏ أنا صاحب السقاية والقائم عليها، وقال علي، ما أدري ما تقولون لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد فأنزل الله عز وجل هذه الآية‏:‏ ‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ‏}‏‏.‏

والسِّقاية‏:‏ مصدر كالرعاية والحماية‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ‏}‏ فيه اختصار تقديره‏:‏ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله وجهاد من جاهد في سبيل الله‏؟‏‏.‏

وقيل‏:‏ السقاية والعمارة بمعنى الساقي والعامر‏.‏ وتقديره‏:‏ أجعلتم ساقي الحاجّ وعامر المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله‏؟‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏والعاقبة للتقوى‏"‏ أي‏:‏ للمتقين، يدل عليه قراءة عبد الله بن الزبير وأبي بن كعب ‏"‏أجعلتم سُقاة الحاج وعَمَرة المسجد الحرام‏"‏، على جمع الساقي والعامر‏.‏

‏{‏كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثني إسحاق بن إبراهيم، حدثنا أبو أسامة، حدثنا يحيى بن مهلب، عن حسين، عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية فاستسقى، فقال العباس‏:‏ يا فضل اذهب إلى أمك فأتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها، فقال‏:‏ اسقني، فقال‏:‏ يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه، قال‏:‏ اسقني، فشرب منه، ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها، فقال‏:‏ اعملوا فإنكم على عمل صالح، ثم قال‏:‏ لولا أن تُغْلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه، وأشار إلى عاتقه‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنا عبد الغافر بن محمد، حدَّثنا محمد بن عيسى الجلودي حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، عن مسلم بن الحجاج، حدَّثني محمد بن منهال الضرير، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حميد الطويل عن بكر بن عبد الله المزني قال‏:‏ كنت جالسا مع ابن عباس عند الكعبة فأتاه أعرابي فقال‏:‏ ما لي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ‏؟‏ أمن حاجة بكم‏؟‏ أم من بخل‏؟‏ فقال ابن عباس‏:‏ الحمد لله ما بنا حاجة ولا بخل، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة فاستسقى، فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب وسقى فضله أسامة، وقال‏:‏ أحسنتم وأجملتم كذا فاصنعوا، فلا نريد تغيير ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 23‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏20‏)‏ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ‏(‏21‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏22‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً‏}‏ فضيلة، ‏{‏عِنْدِ اللَّهِ‏}‏ من الذين افتخروا بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام‏.‏ ‏{‏وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ‏}‏ الناجون من النار‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ هذه الآية متصلة بما قبلها، نزلت في قصة العباس وطلحة وامتناعهما من الهجرة‏.‏

وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس‏:‏ قال‏:‏ لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالهجرة إلى المدينة، فمنهم من يتعلق به أهله وولده، يقولون‏:‏ ننشدك بالله أن لا تضيعنا‏.‏ فيرق لهم فيقيم عليهم ويدع الهجرة، فأنزل الله عز وجل هذه الآية‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ نزلت في التسعة الذين ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة، فنهى الله عن ولايتهم، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ‏}‏ بطانة وأصدقاء فتفشون إليهم أسراركم وتؤثرون المقام معهم على الهجرة، ‏{‏إِنِ اسْتَحَبُّوا‏}‏ اختاروا ‏{‏الْكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ‏}‏ فيطلعهم على عورة المسلمين ويؤثر المقام معهم على الهجرة والجهاد، ‏{‏فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏}‏ وكان في ذلك الوقت لا يقبل الإيمان إلا من مهاجر، فهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 25‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏24‏)‏ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد للمتخلفين عن الهجرة‏:‏ ‏{‏إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ‏}‏ وذلك أنه لما نزلت الآية الأولى قال الذين أسلموا ولم يهاجروا‏:‏ إن نحن هاجرنا ضاعت أموالنا وذهبت تجاراتنا وخربت دورنا وقطعنا أرحامنا، فنزل‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ‏}‏ قرأ أبو بكر عن عاصم‏:‏ ‏"‏عشيراتكم‏"‏ بالألف على الجمع، والآخرون بلا ألف على التوحيد، لأن جمع العشيرة عشائر ‏{‏وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا‏}‏ اكتسبتموها ‏{‏وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا‏}‏ أي‏:‏ تستطيبونها يعني القصور والمنازل، ‏{‏أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا‏}‏ فانتظروا، ‏{‏حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ‏}‏ قال عطاء‏:‏ بقضائه‏.‏ وقال مجاهد ومقاتل‏:‏ بفتح مكة وهذا أمر تهديد، ‏{‏وَاللَّهُ لا يَهْدِي‏}‏ لا يوفق ولا يرشد ‏{‏الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ‏}‏ الخارجين عن الطاعة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ‏}‏ أي مشاهد، ‏{‏كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ‏}‏ وحنين واد بين مكة والطائف‏.‏ وقال عروة‏:‏ إلى جنب ذي المجاز‏.‏

وكانت قصة حنين على ما نقله الرواة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وقد بقيت عليه أيام من شهر رمضان، ثم خرج إلى حنين لقتال هوازن وثقيف في اثني عشر ألفا،- عشرة آلاف من المهاجرين وألفان من الطلقاء، قال عطاء كانوا ستة عشر ألفا‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ كانوا عشرة آلاف، وكانوا يومئذ أكثر ما كانوا قط، والمشركون أربعة آلاف من هوازن وثقيف، وعلى هوازن مالك بن عوف النَّصْري، وعلى ثقيف كنانة بن عبد ياليل الثقفي، فلما التقى الجمعان قال رجل من الأنصار يقال له سلمة بن سلامة بن وقش‏:‏ لن نغلب اليوم عن قلة، فساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه، ووكلوا إلى كلمة الرجل‏.‏ وفي رواية‏:‏ فلم يرض الله قوله، ووكلهم إلى أنفسهم فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم المشركون وخلوا عن الذراري، ثم نادوا‏:‏ يا حماة السواد اذكروا الفضائح، فتراجعوا وانكشف المسلمون‏.‏

قال قتادة‏:‏ وذكر لنا أن الطلقاء انجفلوا يومئذ بالناس فلما انجفل القوم هربوا‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد العزيز أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا أبو خيثمة عن أبي إسحاق قال‏:‏ قال رجل للبراء بن عازب‏:‏ يا أبا عمارة فررتم يوم حنين‏؟‏ قال‏:‏ لا والله ما ولَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه خرج شُبَّان أصحابِه وأخِفَّاؤُهُم وهم حُسَّرٌ ليس عليهم سلاح، أو كثيرُ سلاح، فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم، جمع هوازن وبني نَصْر، فرشقوهم رشقا ما يكادون يخطئون، فأقبلوا هناك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به، فنزل واستنصر وقال‏:‏ أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، ثم صَفَّهم‏.‏

ورواه محمد بن إسماعيل عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق‏.‏ وزاد قال‏:‏ فما رُئي من الناس يومئذ أشد منه‏.‏

ورواه زكريا عن أبي إسحاق‏.‏ وزاد قال البراء‏:‏ كنا إذا احمرَّ البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به يعني النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وروى شعبة عن أبي إسحاق قال‏:‏ قال البراء‏:‏ إن هوازن كانوا قوما رماة، وإنا لما لقيناهم حملنا عليهم، فانهزموا، فأقبل المسلمون على الغنائم فاستقبلونا بالسهام، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفرّ‏.‏

قال الكلبي‏:‏ كان حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة من المسلمين وانهزم سائر الناس‏.‏

وقال آخرون‏:‏ لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ غير‏:‏ العباس بن عبد المطلب، وأبي سفيان بن الحارث، وأيمن بن أم أيمن، فقتل يومئذ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان حدثنا مسلم بن الحجاج، قال‏:‏ حدثنا أبو طاهر، أحمد بن عمرو بن سرح، حدثنا أبو وهب، أخبرنا يونس عن ابن شهاب، قال‏:‏ حدثني كثير بن عباس بن عبد المطلب قال‏:‏ قال عباس‏:‏ شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمتُ أنا وأبو سفيان بن الحارث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، فلما التقى المسلمون والكفار ولَّى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرْكِض بغلته قِبَل الكفار، وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفُّها إرادةَ أن لا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيْ عباسُ‏:‏ نادِ أصحاب السَّمُرة، فقال عباس- وكان رجلا صَيِّتا- فقلت بأعلى صوتي‏:‏ أين اصحاب السمرة‏؟‏ قال‏:‏ فوالله لكأن عَطْفَتُهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا‏:‏ يا لبيك يا لبيك، قال‏:‏ فاقتتلوا والكفار، والدعوة في الأنصار يقولون‏:‏ يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار، ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم، فقال‏:‏ هذا حين حََمِيَ الوَطِيسُ ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصياتٍ فرمى بهنَّ وجوه الكفار، ثم قال‏:‏ انهزموا وربِّ محمد، فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى، قال‏:‏ فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدَّهم كليلا وأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا‏.‏

وقال سلمة بن الأكوع‏:‏ غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حُنينًا قال فلما غَشُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب الأرض، ثم استقبل به وجوههم، فقال ‏"‏شاهت الوجوه‏"‏، فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينه ترابا بتلك القبضة، فولوا مدبرين، فهزمهم الله عز وجل فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين‏.‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ أمدَّ الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين‏.‏

وفي الخبر‏:‏ أن رجلا من بني نضر يقال له شجرة، قال للمؤمنين بعد القتال‏:‏ أين الخيل الُبلْق والرجال الذين عليهم ثياب بيض، ما كنا نراكم فيهم إلا كهيئة الشامة وما كنا قتلنا إلا بأيديهم‏؟‏ فأخبروا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ تلك الملائكة‏.‏

قال الزهري‏:‏ وبلغني أن شيبة بن عثمان بن طلحة قال‏:‏ استدبرتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وأنا أريد قتله بطلحة بن عثمان وعثمان بن طلحة، وكانا قد قتلا يوم أحد، فأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على ما في نفسي فالتفتَ إليَّ وضرب في صدري وقال‏:‏ أعيذك بالله يا شيبة، فأرعدت فرائصي، فنظرت إليه فهو أحب إلي من سمعي وبصري، فقلت‏:‏ أشهد أنك رسول الله، وأن الله قد أطلعك على ما في نفسي‏.‏

فلما هزم الله المشركين وولّوا مدبرين، انطلقوا حتى أتوا أوطاس وبها عيالهم وأموالهم، فبعث رسول الله رجلا من الأشعريين يقال له أبو عامر وأمَّرَه على جيش المسلمين إلى أوطاس، فسار إليهم فاقتتلوا، وقتل دريد بن الصمة، وهزم الله المشركين وسبى المسلمون عيالهم، وهرب أميرهم مالك بن عوف النصري، فأتى الطائف فتحصَّنَ بها وأُخِذَ مالُه وأهله فيمن أخذ‏.‏ وقُتل أمير المسلمين أبو عامر‏.‏

قال الزهري‏:‏ أخبرني سعيد بن المسيب أنهم أصابوا يومئذ ستة آلاف سبي، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى الطائف فحاصرهم بقية ذلك الشهر، فلما دخل ذو القعدة وهو شهر حرام انصرف عنهم، فأتى الجعرانة فأحرم منها بعمرة وقسَّم فيها غنائم حنين وأوطاس، وتألف أناسا، منهم أبو سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، والأقرع بن حابس، فأعطاهم‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، حدثنا الزهري، أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أن أناسا من الأنصار قالوا لرسول الله- حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء، فطفق يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل- فقالوا‏:‏ يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشا ويدعنا وسيوفُنا تَقْطُرُ من دمائهم‏؟‏ قال أنس‏:‏ فُحدِّث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار، فجمعهم في قُبَّةٍ من أدم ولم يَدْعُ معهم أحدا غيرهم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ما كان حديثٌ بلغني عنكم‏؟‏ فقال له فقهاؤهم أما ذوُو رأينا يا رسول الله، فلم يقولوا شيئا، وأما أناس منا حديثةٌ أسنانُهم فقالوا‏:‏ يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشًا ويترك الأنصار وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إني لأعطي رجالا حديثي عهد بكفر، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، قالوا‏:‏ بلى يا رسول الله قد رضينا، فقال لهم‏:‏ ‏"‏إنكم سترون بعدي أَثَرَةً شديدة، فاصبروا حتى تَلْقَوا الله ورسوله على الحوض‏"‏‏.‏

وقال يونس عن ابن شهاب‏:‏ ‏"‏فإني أعطي رجالا حديثي عهد بالكفر أتألفهم‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏فاصبروا حتى تَلْقَوا الله ورسوله فإني على الحوض‏"‏، قالوا‏:‏ سنصبر‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا وهيب، حدثنا عمرو بن يحيى عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال‏:‏ لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا، فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصابه الناس، فخطبهم فقال‏:‏ ‏"‏يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألَّفكم الله بي وكنتم عالةً فأغناكم الله بي‏؟‏ كلما قال شيئا قالوا‏:‏ الله ورسوله أمَنُّ قال‏:‏ ما يمنعكم أن تجيبوا رسولَ الله كلما قال شيئا قالوا‏:‏ الله ورسوله أمَنُّ قال‏:‏ لو شئتم قُلْتُم كذا وكذا، أتَرْضَوْن أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم‏؟‏ لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، الأنصار شِعَارٌ والناسُ دِثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض‏"‏‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا محمد بن أبي عمر المكي، حدثنا سفيان عن عمر بن سعيد بن مسروق عن أبيه عن عباية بن رفاعة، عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال‏:‏ أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مائة من الإبل، وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك، فقال عباس بن مرداس‏:‏

فما كان حِصْنٌ ولا حابس *** يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ في الْمَجْمَعِ

أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ العُبَيْـ *** دِ بين عُيَيْنَةَ والأقرعِ

وما كنتُ دون امرئٍ منهما *** ومن تَخْفِضِ اليومَ لا يُرْفَعِ

قال‏:‏ فأتمَّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة‏.‏

وفي الحديث‏:‏ أن ناسا من هوازن أقبلوا مسلمين بعد ذلك، فقالوا‏:‏ يا رسول الله أنت خيرُ الناس وأَبَرُّ الناس، وقد أُخِذَتْ أبناؤنا ونساؤنا وأموالنا‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا سعيد بن عفير، حدثني الليث، حدثني عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير‏:‏ أن مروان والمسور بن مخرمة أخبراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين، فسألوه أن يردَّ إليهم أموالهم وسَبْيَهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن معي من ترون وأحبُّ الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين‏:‏ إما السبي، وإما المال‏.‏ قالوا‏:‏ فإنا نختار سبينا‏.‏ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثنى على الله عز وجل بما هو أهله ثم قال‏:‏ أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء جاؤوا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك لهم فليفعل، ومن أحب أن يكون على حظ حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا، فليفعل فقال الناس‏:‏ قد طيبنا ذلك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنا لا ندري مَنْ أذِن منكم في ذلك ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم، فرجع الناس، فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا‏.‏ فأنزل الله تعالى في قصة حنين‏:‏ ‏{‏لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ‏}‏ حتى قلتم‏:‏ لن نغلب اليوم من قلة، ‏{‏فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ‏}‏ كثرتكم، ‏{‏شَيْئًا‏}‏ يعني إن الظفر لا يكون بالكثرة، ‏{‏وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ‏}‏ أي برحبها وسعتها، ‏{‏ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ‏}‏ منهزمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 28‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ‏(‏26‏)‏ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏27‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ‏}‏ بعد الهزيمة، ‏{‏سَكِينَتَهُ‏}‏ يعني‏:‏ الأمنَة والطمأنينة، وهي فعيلة من السكون ‏{‏عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة‏.‏ قيل‏:‏ لا للقتال، ولكن لتجبين الكفار وتشجيع المسلمين، لأنه يُروى‏:‏ أن الملائكة لم يقاتلوا إلا يوم بدر، ‏{‏وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ بالقتل والأسر وسبي العيال وسلب الأموال، ‏{‏وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ‏}‏ فيهديه إلى الإسلام، ‏{‏وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ‏}‏ الآية، قال الضحاك وأبو عبيدة‏:‏ نَجِس‏:‏ قذر‏.‏ وقيل‏:‏ خبيث‏.‏ وهو مصدر يستوي فيه الذكر والأنثى والتثنية والجمع، فأما النّجْس‏:‏ بكسر النون وسكون الجيم، فلا يقال على الانفراد، إنما يقال‏:‏ رِجْسٌ نِجْسٌ، فإذا أفرد قيل‏:‏ نَجِس، بفتح النون وكسر الجيم، وأراد به‏:‏ نجاسة الحكم لا نجاسة العين، سُمّوا نَجَسًا على الذم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ سماهم نجسا لأنهم يُجنبون فلا يغتسلون ويُحْدثون فلا يتوضؤون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ‏}‏ أراد منعهم من دخول الحرم لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا من المسجد الحرام، وأراد به الحرم وهذا كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام‏"‏ ‏(‏الإسراء- 1‏)‏، وأراد به الحرم لأنه أسري به من بيت أم هانئ‏.‏

قال الشيخ الإمام الأجل‏:‏ وجملة بلاد الإسلام في حق الكفار على ثلاثة أقسام‏:‏

أحدها‏:‏ الحرم، فلا يجوز للكافر أن يدخله بحال، ذميا كان أو مستأمنا، لظاهر هذه الآية، وإذا جاء رسول من بلاد الكفار إلى الإمام والإمام في الحرم لا يأذن له في دخول الحرم، بل يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم‏.‏ وجوز أهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم‏.‏

والقسم الثاني من بلاد الإسلام‏:‏ الحجاز، فيجوز للكافر دخولها بالإذن ولكن لا يقيم فيها أكثر من مقام السفر وهو ثلاثة أيام، لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏لئن عشت إن شاء الله تعالى لأخرجنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما‏"‏‏.‏ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصى فقال‏:‏ ‏"‏أخرجوا المشركين من جزيرة العرب‏"‏ فلم يتفرغ لذلك أبو بكر رضي الله عنه، وأجلاهم عمر رضي الله عنه في خلافته، وأجَّل لمن يقدم منهم تاجرا ثلاثا‏.‏ وجزيرة العرب من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول، وأما العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام‏.‏

والقسم الثالث‏:‏ سائر بلاد الإسلام، يجوز للكافر أن يقيم فيها بذمة وأمان، ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا‏}‏ يعني‏:‏ العام الذي حج فيه أبو بكر رضي الله عنه بالناس، ونادى علي كرَّم الله وجهه ببراءة، وهو سنة تسع من الهجرة‏.‏

قوله ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً‏}‏ وذلك أن أهل مكة كانت معايشهم من التجارات وكان المشركون يأتون مكة بالطعام ويتجرون، فلما مُنِعوا من دخول الحرم خافوا الفقر، وضيق العيش، وذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً‏}‏ فقرًا وفاقة‏.‏ يقال‏:‏ عال يعيل عَيْلة، ‏{‏فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ قال عكرمة‏:‏ فأغناهم الله عز وجل بأن أنزل عليهم المطر مدرارا فكثر خيرهم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ أسلم أهل جدة وصنعاء وجريش من اليمن وجلبوا الميرة الكثيرة إلى مكة فكفاهم الله ما كانوا يخافون‏.‏ وقال الضحاك وقتادة‏:‏ عوضهم الله منها الجزية فأغناهم بها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏‏.‏

وذلك‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ نزلت هذه الآية حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال الروم، فغزا بعد نزولها غزوة تبوك‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ نزلت في قريظة والنضير من اليهود، فصالحهم وكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام، وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ‏}‏ فإن قيل‏:‏ أهل الكتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر‏؟‏ قيل‏:‏ لا يؤمنون كإيمان المؤمنين، فإنهم إذا قالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله، لا يكون ذلك إيمانا بالله‏.‏ ‏{‏وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ‏}‏ أي‏:‏ لا يدينون الدين الحق، أضاف الاسم إلى الصفة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الحق هو الله، أي‏:‏ لا يدينون دين الله، ودينه الإسلام‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ معناه ولا يطيعون الله تعالى طاعة أهل الحق‏.‏ ‏{‏مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ‏}‏ يعني‏:‏ اليهود والنصارى‏.‏ ‏{‏حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ‏}‏ وهي الخراج المضروب على رقابهم، ‏{‏عن يد‏}‏ عن قهر وذل‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ يقال لكل من أعطى شيئا كرها من غير طيب نفس‏:‏ أعطاه عن يد‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها على يد غيرهم‏.‏ وقيل‏:‏ عن يد أي‏:‏ عن نقد لا نسيئة‏.‏ وقيل‏:‏ عن إقرار بإنعام المسلمين عليهم بقبول الجزية منهم، ‏{‏وَهُمْ صَاغِرُونَ‏}‏ أذلاء مقهورون‏.‏ قال عكرمة‏:‏ يعطون الجزية عن قيام، والقابض جالس‏.‏ وعن ابن عباس قال‏:‏ تُؤْخَذ منه ويُوطأ عنقه‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ إذا أعطى صفع في قفاه‏.‏

وقيل‏:‏ يؤخذ بلحيته ويضرب في لهزمتيه‏.‏

وقيل‏:‏ يُلَبَّبُ ويجر إلى موضع الإعطاء بعنف‏.‏

وقيل‏:‏ إعطاؤه إياها هو الصغار‏.‏

وقال الشافعي رحمه الله‏:‏ الصغار هو جريان أحكام الإسلام عليهم‏.‏

واتفقت الأمة على جواز أخذ الجزية من أهل الكتابين، وهم اليهود والنصارى إذا لم يكونوا عربًا‏.‏

واختلفوا في الكتابي العربي وفي غير أهل الكتاب من كفار العجم، فذهب الشافعي‏:‏ إلى أنَّ الجزية على الأديان لا على الأنساب، فتؤخذ من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجمًا، ولا تؤخذ من أهل الأوثان بحال، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من أكيدر دومة، وهو رجل من العرب يقال‏:‏ إنه من غسان، وأخذ من أهل ذمة اليمن، وعامّتُهم عرب‏.‏

وذهب مالك والأوزاعي‏:‏ إلى أنها تُؤْخَذ من جميع الكفار إلا المرتد‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ تؤخذ من أهل الكتاب على العموم، وتؤخذ من مشركي العجم، ولا تؤخذ من مشركي العرب‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ لا تؤخذ من العربي، كتابيا كان أو مشركا، وتؤخذ من العجمي كتابيا كان أو مشركا‏.‏

وأما المجوس‏:‏ فاتفقت الصحابة رضي الله عنهم على أخذ الجزية منهم‏.‏

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع بَجَالة يقول‏:‏ لم يكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هَجَر‏.‏

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال‏:‏ ما أدري كيف أصنع في أمرهم‏؟‏ فقال عبد الرحمن بن عوف‏:‏ أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏سُنُّوا بهم سنة أهل الكتاب‏"‏‏.‏

وفي امتناع عمر رضي الله عنه عن أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر، دليل على أن رأي الصحابة كان على أنها لا تُؤخذ من كل مشرك، وإنما تؤخذ من أهل الكتاب‏.‏

واختلفوا في أن المجوس‏:‏ هل هم من أهل الكتاب أم لا‏؟‏ فروي عن علي رضي الله عنه قال‏:‏ كان لهم كتاب يدرسونه فأصبحوا، وقد أسري على كتابهم، فرفع من بين أظهرهم‏.‏

واتفقوا على تحريم ذبائح المجوس ومناكحتهم بخلاف أهل الكتابين‏.‏

أما من دخل في دين اليهود والنصارى من غيرهم من المشركين نُظِر‏:‏ إن دخلوا فيه قبل النسخ والتبديل يقرون بالجزية، وتحل مناكحتهم وذبائحهم، وإن دخلوا في دينهم بعد النسخ بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم لا يُقَرون بالجزية، ولا تحل مناكحتهم وذبائحهم، ومن شككنا في أمرهم أنهم دخلوا فيه بعد النسخ أو قبله‏:‏ يقرون بالجزية تغليبا لحقن الدم، ولا تحل مناكحتهم وذبائحهم تغليبا للتحريم، فمنهم نصارى العرب من تنوخ وبهراء وبني تغلب، أقرَّهم عمر رضي الله عنه على الجزية، وقال‏:‏ لا تحل لنا ذبائحهم‏.‏

وأما قدر الجزية‏:‏ فأقله دينار، لا يجوز أن ينقص منه، ويقبل الدينار من الفقير والغني والوسط لما أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي، أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي، حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي، حدثنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال‏:‏ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر‏.‏ فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ من كل حالم، أي بالغ، دينارا ولم يفصل بين الغني والفقير والوسط، وفيه دليل على أنها لا تجب على الصبيان وكذلك لا تجب على النسوان، إنما تؤخذ من الأحرار العاقلين البالغين من الرجال‏.‏

وذهب قوم إلى أنه على كل موسر أربعة دنانير، وعلى كل متوسط ديناران، وعلى كل فقير دينار، وهو قول أصحاب الرأي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ‏}‏ روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود‏:‏ سلام بن مشكم، والنعمان بن أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف، فقالوا‏:‏ كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرًا ابن الله‏؟‏ فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّه‏}‏‏.‏

قرأ عاصم والكسائي ويعقوب ‏"‏ عزير ‏"‏ بالتنوين والآخرون بغير تنوين؛ لأنه اسم أعجمي ويشبه اسما مصغرا، ومن نوَّن قال‏:‏ لأنه اسم خفيف، فوجهه أن يصرف، وإن كان أعجميا مثل نوح وهود ولوط‏.‏ واختار أبو عبيدة التنوين وقال‏:‏ لأن هذا ليس بمنسوب إلى أبيه، إنما هو كقولك زيد ابن الأمير وزيد ابن أختنا، فعزيز مبتدأ وما بعده خبر له‏.‏

وقال عبيد بن عمير‏:‏ إنما قال هذه المقالة رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء‏.‏

وهو الذي قال‏:‏ ‏"‏إن الله فقير ونحن أغنياء‏"‏ ‏"‏آل عمران- 181‏"‏‏.‏

وروى عطية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ إنما قالت اليهود عزير ابن الله من أجل أن عزيرًا كان فيهم وكانت التوراة عندهم والتابوت فيهم، فأضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق، فرفع الله عنهم التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم، فدعا الله عزير وابتهل إليه أن يرد إليه الذي نسخ من صدورهم، فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله تعالى نزل نور من السماء فدخل جوفه فعادت إليه التوراة فأذَّن في قومه، وقال‏:‏ يا قوم قد آتاني الله التوراة ردَّها إلي‏!‏ فعلق به الناس يعلمهم، فمكثوا ما شاء الله تعالى، ثم إن التابوت نزل بعد ذهابه منهم، فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان يعلمهم عزير فوجدوه مثله، فقالوا‏:‏ ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ إن بختنصر لما ظهر على بني إسرائيل وقتل منهم مَنْ قرأ التوراة، وكان عزير إذ ذاك صغيرًا فاستصغره فلم يقتله، فلما رجع بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس فيهم مَنْ يقرأ التوراة بعث الله عزيراً ليجدد لهم التوراة وتكون لهم آية بعد مائة سنة، يقال‏:‏ أتاه ملك بإناء فيه ماء فسقاه فمثلت التوراة في صدره، فلما أتاهم قال أنا عزير فكذبوه وقالوا‏:‏ إن كنت كما تزعم فأمْلِ علينا التوراة، فكتبها لهم، ثم إن رجلا قال‏:‏ إن أبي حدثني عن جدي أن التوراة جعلت في خابية ودفنت في كرم، فانطلقوا معه حتى أخرجوها، فعارضوها بما كتب لهم عزير فلم يجدوه غادر منها حرفا، فقالوا‏:‏ إن الله لم يقذف التوراة في قلب رجل إلا لأنه ابنه، فعند ذلك قالت اليهود‏:‏ عزير ابن الله‏.‏

وأما النصارى فقالوا‏:‏ المسيح ابن الله، وكان السبب فيه أنهم كانوا على دين الإسلام إحدى وثمانين سنة بعدما رُفِع عيسى عليه السلام يُصَلُّون إلى القبلة، ويصومون رمضان، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له ‏"‏بولص‏"‏ قتل جملة من أصحاب عيسى عليه السلام، ثم قال لليهود‏:‏ إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا به والنار مصيرنا، فنحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار، فإني أحتال وأُضِلُّهم حتى يدخلوا النار، وكان له فرس يقال له العقاب يقاتل عليه فعرقب فرسه وأظهر الندامة، ووضع على رأسه التراب، فقال له النصارى‏:‏ من أنت‏؟‏ قال‏:‏ بولص عدوكم، فنوديت من السماء‏:‏ ليست لك توبة إلا أن تَتَنَصَّر، وقد تبت‏.‏ فأدخلوه الكنيسة، ودخل بيتا سنة لا يخرج منه ليلا ولا نهارًا حتى تعلَّم الإنجيل، ثم خرج وقال‏:‏ نوديت أن الله قَبِلَ توبتك، فصدقوه وأحبوه، ثم مضى إلى بيت المقدس، واستخلف عليهم نسطورا وعلَّمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة، ثم توجَّه إلى الروم وعَلَّمَهُم اللاهوت والناسوت، وقال‏:‏ لم يكن عيسى بإنس ولا بجسم، ولكنه ابن الله، وعلَّم ذلك رجلا يقال له ‏"‏يعقوب‏"‏ ثم دعا رجلا يقال له مَلْكا، فقال‏:‏ إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى، فلما استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحدًا واحدًا، وقال لكل واحد منهم‏:‏ أنت خالصتي، وقد رأيت عيسى في المنام فرضي عني‏.‏ وقال لكل واحد منهم‏:‏ إني غدًا أذبح نفسي، فادْعُ الناس إلى نِحْلتك‏.‏ ثم دخل المذبح نفسه وقال‏:‏ إنما أفعل ذلك لمرضاة عيسى، فلما كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم الناسَ إلى نِحْلَتِه، فتبع كُلَّ واحد طائفةٌ من الناس، فاختلفوا واقتتلوا فقال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ‏}‏، ‏{‏ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ‏}‏ يقولون بألسنتهم من غير علم‏.‏ قال أهل المعاني‏:‏ لم يذكر الله تعالى قولا مقرونا بالأفواه والألسن إلا كان ذلك زورًا‏.‏

‏{‏يُضَاهِئُون‏}‏ قرأ عاصم بكسر الهاء مهموزا، والآخرون بضم الهاء غير مهموز، وهما لغتان يقال‏:‏ ضاهيته وضاهأته، ومعناهما واحد‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ يشابهون‏.‏ والمضاهاة المشابهة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يُواطئون وقال الحسن‏:‏ يوافقون، ‏{‏قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ‏}‏ قال قتادة والسدي‏:‏ ضاهت النصارى قول اليهود من قبل، فقالوا‏:‏ المسيح ابن الله، كما قالت اليهود‏:‏ عزير ابن الله‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يضاهئون قول المشركين من قبل الذين كانوا يقولون اللات والعزى ومناة بنات الله‏.‏ وقال الحسن‏:‏ شبّه كفرَهم بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة كما قال في مشركي العرب‏:‏ ‏"‏كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم‏"‏ ‏(‏البقرة- 188‏)‏‏.‏ وقال القتيبي‏:‏ يريد أن مَنْ كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يقولون ما قال أوّلهم، ‏{‏قَاتَلَهُمُ اللَّهُ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لعنهم الله‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ أي‏:‏ قتلهم الله‏.‏ وقيل‏:‏ ليس هو على تحقيق المقاتلة ولكنه بمعنى التعجب، ‏{‏أَنَّى يُؤْفَكُونَ‏}‏ أي‏:‏ يصرفون عن الحق بعد قيام الأدلة عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا‏}‏ أي‏:‏ علماءهم وقرّاءهم، والأحبار‏:‏ العلماء، وأحدها حِبر،

وحَبر بكسر الحاء وفتحها، والرهبان من النصارى أصحاب الصوامع فإن قيل‏:‏ إنهم لم يعبدوا الأحبار والرهبان‏؟‏ قلنا‏:‏ معناه أنهم أطاعوهم في معصية الله واستحلوا ما أحلّوا وحرّموا ما حرّموا، فاتخذوهم كالأرباب‏.‏ رُوي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال‏:‏ أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال لي‏:‏ ‏"‏يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك‏"‏، فطرحته ثم انتهيت إليه وهو يقرأ‏:‏ ‏{‏اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏ حتى فرغ منها، قلت له‏:‏ إنّا لسنا نعبدهم، فقال‏:‏ ‏"‏أليس يُحرمون ما أحلّ الله فتحرمونه ويحلّون ما حرّم الله فتستحلونه‏"‏‏؟‏ قال قلت‏:‏ بلى، قال‏:‏ ‏"‏فتلك عبادتهم‏"‏‏.‏

قال عبد الله بن المبارك‏:‏

وهل بدل الدين إلا الملوك *** وأحبار سوء ورهبانها

‏{‏وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ‏}‏ أي‏:‏ اتخذوه إلها، ‏{‏وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 33‏]‏

‏{‏يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏32‏)‏ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ يبطلوا دين الله بألسنتهم وتكذيبهم إياه‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ النور القرآن، أي‏:‏ يريدون أن يردوا القرآن بألسنتهم تكذيبا، ‏{‏وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ‏}‏ أي‏:‏ يعلي دينه ويظهر كلمته ويتم الحق الذي بعث به محمدا صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ‏}‏ يعني‏:‏ الذي يأبى إلا إتمام دينه هو الذي أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، ‏{‏بِالْهُدَى‏}‏ قيل‏:‏ بالقرآن‏.‏ وقيل‏:‏ ببيان الفرائض، ‏{‏وَدِينِ الْحَقِّ‏}‏ وهو الإسلام، ‏{‏لِيُظْهِرَهُ‏}‏‏.‏

ليعليه وينصره، ‏{‏عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ‏}‏ على سائر الأديان، ‏{‏وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

واختلفوا في معنى هذه الآية‏:‏ فقال ابن عباس‏:‏ الهاء عائدة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي‏:‏ ليعلمه شرائع الدين كلها فيظهره عليها حتى لا يخفى عليه منها شيء‏.‏

وقال الآخرون‏:‏ الهاء راجعة إلى دين الحق، وظهوره على الأديان هو أن لا يدان الله تعالى إلا به‏.‏ وقال أبو هريرة والضحاك‏:‏ وذلك عند نزول عيسى بن مريم لا يبقى أهل دين إلا دخل في الإسلام‏.‏

وروينا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى عليه السلام قال‏:‏ ‏"‏ويهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام‏"‏ وروى المقداد قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام إما بعز عزيز أو ذل ذليل‏"‏ إما يعزهم الله فيجعلهم من أهله، فيعز به، أو يذلهم فيدينون له‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب، حدثنا أبو جعفر محمد سليمان بن منصور، حدثنا أبو مسلم بن إبراهيم بن عبد الله الكجي، حدثنا أبو عاصم النبيل، حدثنا عبد الحميد، هو ابن جعفر، عن الأسود بن العلاء، عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنه قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى‏"‏، قالت‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله ما كنت أظن أن يكون ذلك بعدما أنزل الله تعالى عليك‏:‏ ‏"‏هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون‏"‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏يكون ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله تعالى ريحا طيبة، فتقبض من كان في قلبه مثقال ذرة من خير، ثم يبقى مَنْ لا خير فيه، فيرجع الناس إلى دين آبائهم‏"‏‏.‏

قال الحسين بن الفضل‏:‏ معنى الآية ليظهره على الدين كله بالحجج الواضحة‏.‏

وقيل‏:‏ ليظهره على الأديان التي حول النبي صلى الله عليه وسلم فيغلبهم‏.‏

قال الشافعي رحمه الله‏:‏ فقد أظهر الله رسوله صلى الله عليه وسلم على الأديان كلها بأن أبان لكل مَنْ سمعه أنه الحق، وما خالفه من الأديان باطل، وقال‏:‏ وأظهره بأن جماع الشرك دينان‏:‏ دين أهل الكتاب، ودين أميين فقهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأميين حتى دانوا بالإسلام طوعًا وكرهًا، وقتل أهل الكتاب وسبى، حتى دان بعضهم بالإسلام، وأعطى بعضهم الجزية صاغرين، وجرى عليهم حكمه، فهذا ظهوره على الدين كله، والله أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏34‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ‏}‏ يعني، العلماء والقراء من أهل الكتاب، ‏{‏لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ‏}‏ يريد‏:‏ ليأخذون الرشا في أحكامهم، ويحرفون كتاب الله، ويكتبون بأيديهم كتبا يقولون‏:‏ هذه من عند الله، ويأخذون بها ثمنا قليلا من سفلتهم، وهي المآكل التي يصيبونها منهم على تغيير نعت النبي صلى الله عليه وسلم، يخافون لو صدقوهم لذهبت عنهم تلك المآكل، ‏{‏وَيَصُدُّونَ‏}‏ ويصرفون الناس، ‏{‏عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ دين الله عز وجل‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ قال ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ كل مال تُؤَدّى زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا‏.‏ وكل مالٍ لا تُؤَدّى زكاته فهو كنز وإن لم يكن مدفونا‏.‏ ومثله عن ابن عباس‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثني سويد بن سعيد، حدثنا حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم أن أبا صالح بن ذكوان أخبره أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما مِنْ صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يومُ القيامة صُفِّحتْ له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جبينه، وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي الله بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقَّها، ومن حقها حلبها يوم وِرْدِهَا إلا إذا كان يوم القيامة، بُطِحَ لها بقاع قرقر، أوفر ما كانت، لا يفقد منها فصيلا واحدا، تطؤه بأخفافها، وتعضُّه بأفواهها، كلما مر عليه أُولاها رُدّ عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، ولا صاحب بَقَرٍ ولا غنم، لا يؤدي منها حقّها، إلا إذا كان يوم القيامة، بُطِحَ لها بِقاعٍ قرقرٍ لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء، ولا جلحاء، ولا عضباء، تنطحه بقرونها، وتطؤُه بأظلافها، كلما مرَّ عليه أُولاها، رُدَّ عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي الله بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار‏"‏‏.‏

وروينا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته، مُثِّل له ماله يوم القيامة شجاعًا أقرع، له زبيبتان يُطوّقه يوم القيامة، فيأخذ بِلِهْزِمَتَيْهِ، يعني‏:‏ شِدْقَيْهِ، ثم يقول‏:‏ أنا مالُك، أنا كنزك، ثم تلا ‏{‏وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ‏}‏ الآية‏.‏

وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال‏:‏ كل مال زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز أَدَّيْتَ منه الزكاة أو لم تُؤَدِّ، وما دونها نفقة‏.‏

وقيل‏:‏ ما فضل عن الحاجة فهو كنز‏.‏ أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر قال‏:‏ انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال‏:‏ ‏"‏هم الأخسرون وَرَبِّ الكعبة‏"‏، قال‏:‏ فجئت حتى جلست، فلم أتقار أن قمت فقلت‏:‏ يا رسول الله فداك أبي وأمي، من هم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏هم الأكثرون أموالا إلا من قال‏:‏ هكذا وهكذا وهكذا، من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، وقليل ما هم‏"‏

وروي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه كان يقول‏:‏ من ترك بيضاء، أو حمراء، كوي بها يوم القيامة‏.‏

وروي عن أبي أمامة قال‏:‏ مات رجل من أهل الصفة، فوجد في مئزره دينار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏كية‏"‏، ثم توفي آخر فوجد في مئزره ديناران، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كيتان‏"‏‏.‏

والقول الأول أصح؛ لأن الآية في منع الزكاة لا في جمع المال الحلال‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏نعم المال الصالح للرجل الصالح‏"‏‏.‏

وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية، كبر ذلك على المسلمين وقالوا‏:‏ ما يستطيع أحد منا أن يدع لولده شيئا، فذكر عمر ذلك لرسول الله فقال‏:‏ ‏"‏إن الله عز وجل لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم‏"‏‏.‏

وسئل ابن عمر رضي الله عنهما عن هذه الآية‏؟‏ فقال‏:‏ كان ذلك قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال‏.‏

وقال ابن عمر‏:‏ ما أبالي لو أن لي مثل أحد ذهبا أعلم عدده أزكيه وأعمل بطاعة الله‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ولم يقل‏:‏ ولا ينفقونهما، وقد ذكر الذهب والفضة جميعا‏.‏ قيل‏:‏ أراد الكنوز وأعيان الذهب والفضة‏.‏ وقيل‏:‏ ردّ الكناية إلى الفضة لأنها أعمّ، كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة‏"‏ ‏"‏البقرة- 45‏"‏، ردّ الكناية إلى الصلاة لأنها أعمّ، وكقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها‏"‏ ‏(‏الجمعة- 11‏)‏ رد الكناية إلى التجارة لأنها أعم، ‏{‏فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ أنذرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ‏}‏ أي‏:‏ تدخل النار فيوقد عليها أي على الكنوز، ‏{‏فَتُكْوَى بِهَا‏}‏ فتحرق بها، ‏{‏جِبَاهُهُم‏}‏ أي‏:‏ جباه كانزيها، ‏{‏وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ‏}‏ روي عن ابن مسعود قال‏:‏ إنه لا يوضع دينار على دينار ولا درهم على درهم، ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل دينار ودرهم في موضع على حدة‏.‏

وسئل أبو بكر الوراق‏:‏ لِمَ خصّ الجباه والجنوب والظهور بالكي‏؟‏ قال‏:‏ لأن الغني صاحب الكنز إذا رأى الفقير قبض وجهه، وزوى ما بين عينيه، وولاه ظهره، وأعرض عنه بكشحه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَذَا مَا كَنَزْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ يقال لهم‏:‏ هذا ما كنزتم، ‏{‏لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ‏}‏ أي‏:‏ تمنعون حقوق الله تعالى في أموالكم‏.‏ وقال بعض الصحابة‏:‏ هذه الآية في أهل الكتاب‏.‏ وقال الأكثرون‏:‏ هي عامة في أهل الكتاب والمسلمين، وبه قال أبو ذر رضي الله عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏36‏)‏ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ‏}‏ أي‏:‏ عدد الشهور، ‏{‏عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ‏}‏ وهي المحرم وصفر وربيع الأول وشهر ربيع الثاني وجمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجب وشعبان وشهر رمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فِي كِتَابِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ في حكم الله‏.‏ وقيل‏:‏ في اللوح المحفوظ‏.‏ قرأ أبو جعفر‏:‏ اثنا عشر، وتسعة عشر، وأحد عشر، بسكون الشين، وقرأ العامة بفتحها، ‏{‏يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْض‏}‏ والمراد منه‏:‏ الشهور الهلالية، وهي الشهور التي يعتد بها المسلمون في صيامهم وحجهم وأعيادهم وسائر أمورهم، وبالشهور الشمسية تكون السنة ثلاث مائة وخمسة وستين يوما وربع يوم، والهلالية تنقص عن ثلاث مائة وستين يوما بنقصان الأهلة‏.‏ والغالب أنها تكون ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما، ‏{‏مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ‏}‏ من الشهور أربعة حرم وهي‏:‏ رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، واحد فرد وثلاثة سرد، ‏{‏ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ‏}‏ أي‏:‏ الحساب المستقيم‏.‏

‏{‏فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ‏}‏ قيل‏:‏ قوله ‏"‏فيهن‏"‏ ينصرف إلى جميع شهور السنة، أي‏:‏ فلا تظلموا فيهن أنفسكم بفعل المعاصي وترك الطاعة‏.‏ وقيل‏:‏ ‏"‏فيهن‏"‏ أي‏:‏ في الأشهر الحرم‏.‏ قال قتادة‏:‏ العمل الصالح أعظم أجرا في الأشهر الحرم، والظلم فيهن أعظم من الظلم فيما سواهن، وإن

كان الظلم على كل حال عظيما‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ فلا تظلموا فيهن أنفسكم يريد استحلال الحرام والغارة فيهن‏.‏ قال محمد بن إسحاق بن يسار‏:‏ لا تجعلوا حلالها حراما، ولا حرامها حلالا كفعل أهل الشرك وهو النسيء‏.‏

‏{‏وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً‏}‏ جميعا عامة، ‏{‏كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ‏}‏ واختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم‏.‏ فقال قوم‏:‏ كان كبيرا ثم نسخ بقوله‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً‏}‏ كأنه يقول فيهن وفي غيرهن‏.‏ وهو قول قتادة، وعطاء الخراساني، والزهري، وسفيان الثوري، وقالوا‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين، وثقيفا بالطائف، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة‏.‏ وقال آخرون‏:‏ إنه غير منسوخ‏:‏ قال ابن جريج‏:‏ حلف بالله عطاء بن أبي رباح‏:‏ ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم، ولا في الأشهر الحرم، إلا أن يقاتلوا فيها وما نسخت‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ‏}‏ قيل‏:‏ هو مصدر كالسعير والحريق‏.‏ وقيل‏:‏ هو مفعول كالجريح والقتيل، وهو من التأخير‏.‏ ومنه النسيئة في البيع، يقال‏:‏ أنسأ الله في أجله أي أخر، وهو ممدود مهموز عند أكثر القراء، وقرأ ورش عن نافع من طريق البخاري‏:‏ بتشديد الياء من غير همز، وقد قيل‏:‏ أصله الهمزة فخفف‏.‏

وقيل‏:‏ هو من النسيان على معنى المنسي أي‏:‏ المتروك‏.‏ ومعنى النسيء‏:‏ هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر، وذلك أن العرب كانت تعتقد تعظيم الأشهر الحرم، وكان ذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم عليه السلام، وكانت عامة معايشهم من الصيد والغارة، فكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر على التوالي، وربما وقعت لهم حرب في بعض الأشهر الحرم فيكرهون تأخير حربهم، فنسؤوا أي‏:‏ أخَّروا تحريم ذلك الشهر إلى شهر آخر، وكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر، فيحرمون صفر ويستحلون المحرم، فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخروه إلى ربيع، هكذا شهرا بعد شهر، حتى استدار التحريم على السنة كلها‏.‏ فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله عز وجل فيه، وذلك بعد دهر طويل، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجته‏.‏

كما‏:‏ أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف الفربري، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا محمد بن سلام، حدثنا عبد الواحد حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب عن محمد بن سيرين، عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خَلَقَ السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات‏:‏ ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏أيّ شهر هذا‏؟‏ قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال‏:‏ أليس ذو الحجة‏؟‏ قلنا‏:‏ بلى، قال‏:‏ أيّ بلد هذا‏؟‏ قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال‏:‏ أليس البلد الحرام‏؟‏ قلنا‏:‏ بلى، قال‏:‏ فأيَ يوم هذا‏؟‏ قلنا‏:‏ الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال‏:‏ أليس يوم النحر‏؟‏ قلنا‏:‏ بلى، قال‏:‏ فإن دماءكم وأموالكم، قال محمد‏:‏ أحسبه قال‏:‏ وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضُلالا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض مَنْ يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه، ألا هل بلغت ألا هل بلغت‏"‏‏؟‏

قالوا‏:‏ وكان قد استمر النسيء بهم، فكانوا ربما يحجون في بعض السنين في شهر ويحجون من قابل في شهر آخر‏.‏

قال مجاهد‏:‏ كانوا يحجون في كل شهر عامين، فحجوا في شهر ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكذلك في الشهور، فوافقت حجة أبي بكر رضي الله عنه قبل حجة الوداع السنة الثانية من ذي القعدة، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام القابل حجة الوداع، فوافق حجُّه شهر الحج المشروع وهو ذو الحجة، فوقف بعرفة يوم التاسع، وخطب اليوم العاشر بمنى، وأعلمهم أن أشهر النسيء قد تناسخت باستدارة الزمان، وعاد الأمر إلى ما وضع الله عليه حساب الأشهر يوم خلق الله السموات والأرض، وأمرهم بالمحافظة عليه لئلا يتبدل في مستأنف الأيام‏.‏

واختلفوا في أول من نسأ النسيء‏:‏ فقال ابن عباس والضحاك وقتادة ومجاهد‏:‏ أول من نسأ النسيء بنو مالك بن كنانة، وكانوا ثلاثة‏:‏ أبو ثمامة جناد بن عوف بن أمية الكناني‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال‏:‏ له نعيم بن ثعلبة، وكان يكون أميرا على الناس بالموسم، فإذا هم الناس بالصدر، قام فخطب الناس فقال‏:‏ لا مردَّ لما قضيت، أنا الذي لا أعاب ولا أجاب، فيقول له المشركون‏:‏ لبيك، ثم يسألونه أن ينسأهم شهرا يغيرون فيه، فيقول‏:‏ فإن صفرًا العام حرام، فإذا قال ذلك حلُّوا الأوتار، ونزعوا الأسنة والأزجة، وإن قال حلال عقدوا الأوتار وشدُّوا الأزجة، وأغاروا‏.‏ وكان من بعد نعيم بن ثعلبة رجل يقال له‏:‏ جنادة بن عوف، وهو الذي أدركه النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ هو رجل من بني كنانة يقال له‏:‏ القلمس، قال شاعرهم‏:‏ ‏"‏وفينا ناسئ الشهر القلمس‏"‏، وكانوا لا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة إذا اجتمعت العرب للموسم‏.‏

وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ إن أول من سن النسيء عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنبأنا عبد الغافر بن محمد، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثني زهير بن حرب، حدثنا جرير، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبا بني كعب، وهو يجر قُصْبَه في النار‏"‏‏.‏

فهذا الذي ذكرنا هو النسيء الذي ذكره الله تعالى فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ‏}‏ يريد زيادة كفر على كفرهم، ‏{‏يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ قرأ حمزة والكسائي وحفص‏:‏ ‏{‏يُضَلُّ‏}‏ بضم الياء وفتح الضاد، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏زين لهم سوء أعمالهم‏"‏، وقرأ يعقوب بضم الياء وكسر الضاد، وهي قراءة الحسن ومجاهد على معنى ‏"‏ يضل ‏"‏ به الذين كفروا الناس، وقرأ الآخرون بفتح الياء وكسر الضاد، لأنهم هم الضالون لقوله‏:‏ ‏{‏يُحِلُّونَه‏}‏ يعني النسيء ‏{‏عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا‏}‏ أي‏:‏ ليوافقوا، والمواطأة‏:‏ الموافقة، ‏{‏عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ‏}‏ يريد أنهم لم يحلوا شهرا من الحرام إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال، ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرام، لئلا يكون الحرام أكثر من أربعة أشهر، كما حرم الله فيكون موافقة العدد، ‏{‏فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ زين لهم الشيطان، ‏{‏وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏